الجمعة، 4 يناير 2013

العلاقة بين السلطة الزمنية السياسية ومنصب البطريرك

مارمرقس ومن براعة الرسام أنه قام برسمه خارج أسوار الكاتدرائية وكان يقصد ترسيخ أصول الخلافة المرقسية لكنه بدون قصد صار مارمرقس خارج الكاتدرائية بملابسه اليهودية السكندرية كمواطن عادى بسيط لم ينل ما يناله خلفاءوه - لو جاز هذا التعبير - من مجد وسلطان 
العلاقة بين السلطة الزمنية ونشأة منصب البطريرك
عندما أراد اليهود أن يُنَّصِبوا المسيح ملكآ عليهم جاز من وسطهم ومضى وأُعميَت أعينهم عن متابعته ويقول أيضآ فى الأنجيل بحسب يوحنا أصحاح 6 : 15 " وأما يسوع فأذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكآ إنصرف إلى الجبل وحده "
وقد دافع المسيح عن نفسه أمام بيلاطس البنطى الحاكم الرومانى آنذاك فى الأنجيل بحـسب البشير يوحنا الأصحاح 18 عدد 36 " أجاب يسوع مملكتى ليست من هذا العالم.لو كانت مملكتى من هذا العالم لكان خدامى يجاهدون لكى لا أسلم إلى اليهود . ولكن الآن مملكتى ليست من هذا العالم "

ومع أن هذا الموقف الذى إتخذته المسيحية فى تساميها وتعففها عن السعى للسلطة الدنـيوية ، إلا أن السلطة الدنيوية لم تكن بعيدة عن التأثير فى المجتمع المسيحى ذاته بل وتأثر بها الساســة أنفسهم فقد وصلت المسيحية لأفراد ينتمون للطبقة العليا من الأغنياء والسادة فى المجتمع الرومانى ففى عام 57 م عندما كتب بولس الرسول رسالته إلى روميه
1
كانت السيدة " بومــبنيا جريكينا"2 وهى زوجة أولوس بلاوتيوس 3وهو حاكم بريتين4 وهو الذى ضم المقاطـعة التى كان يحكمها للإمبراطوريه الرومانيه عام 43 م ، كانت هذه السيدة غير قادرة على القيام بعبء إدارة شئون بلاطها أى قصرها الملكى بكل ما فيه من مهام فعهدت بهذه المهمة لسيدة أجنبية وكانت هذه السيدة الوافدة مسيحية مؤمنة ، وكان فى ذلك الوقت ينظر الرومان للمسيحية بنـظرة دونية معتقدين أنها خرافة شرقية مثيرة للإشمئزاز 5 ولننظر مثلآ ما قاله جوفينال 6 بعد ذلك بنحو 60 سته ، إن الحاكم ( ويقصد أولوس) كان يصرف المجارى والقاذورات الخاصـة بأورنتوس 7 (وهو اسم المدينة التى كان يقطنها غالبية المسيحيون ) فى نهر التيبر ( ويقصـد أنه كان يشجعهم على الإنتشار بإسلوب ملكى) ومن الواضح أنه كان يقصد بالمجارى والقاذورات : الفكر المسيحى من وجهة نظره ، ومثل هذا النص يشير إلى ملاحظة النبلاء لمدى التغير الــذى كان يحدث داخل قصر الحاكم بالتعاطف مع الفكر المسيحى الذى يأتى من داخل قصر الحاكم مما يؤدى لإنتشارها .
 وليس بعيد عن الذكر ما أرسله الرسول بولس من تحيات للذين فى بيت قيصر .
وبداية من عصر قسطنطين الملك وهو ابن الملكة هيلانة المسيحية التى بفضلها تم إنشاء الــعديد من الكنائس بفلسطين وعلى رأس تلك الكنائس كنيسة القيامة ، وكذلك دير سانت كاترين ( فيـــما يقوله الأب متى المسكين فى كتابه: الكنيسة والدولة) بدأت الكنيسة تلتجىء للملوك لتستمد منـهم السلطان ليستصدروا منهم مراسيم ملكية بإقرار الإيمان المسيحى ولكن على قدر نجاح الكنـــيسة فى الحصول على هذا السلطان على قدر الفشل فى حد ذاته الذى أصاب بنية الإيمان نفـسه والمؤمنين به .
فلقد تملق رجال الكنيسة السلطات ، للإنتصار على مناوئيهم ودحرهم فى أكثر من واقـعة من وقائع التاريخ وبذلك سمح رجال الكنيسة لسيف السلطان أن يتدخل لحسم أمور من المفروض أنها أساسآ روحيه فكريه عقيديه لا علاقة لها بالسياسة أو الحكم أو النظام الحاكم .
وكانت البداية من عصر قسطنطين الملك  فى القرن الرابع الميلادى عندما ساد تصوره بأنه قــــد تولى حماية الإيمان بوصفه حاكم إسرائيل ( شعب الله التقليدى) الأول ، وسيأتى الحديـث عنه لاحقآ ، وجاء بعده الملك ثيئودوسيوس ليأمر بهدم معابد الوثنيين بقوة العسكر كأيام ملوك بنى إسرائيل الأولى فكان ذلك العهد بمثابة رِدَةَ حضاريه وروحية وفكرية فى تاريخ الكنيسة للـعودة لفكرة الدولة الثيؤقراطية فى العهد القديم .
ولم يكتفِ ثيؤدوروس بذلك بل أصدر عام 391 م أوامره بإحراق مكتبة الإسكندرية بسـبب ما إعتقده بأنها تحتوى على الأفكار والفلسفات والمؤلفات التى تخالف العقيدة المـسيحية التى صارت فى عهده هى الديانة الرسمية للدولة.
وقد سبق ذلك بعام 390 م عندما أصدر أوامره بنقل مسلة تحتمس الثالث التى كانت منتــــــصبة جوار معبد الكرنك فى طيبة إلى القسطنطينية وذلك بتقطيعها لثلاثة أجزاء ثم إعادة تركيــــبها ولا تزال هناك حتى الآن ( بعد تغير إسم القسطنطينية إلى إسلام بول ثم إلى إستانبول) .
كما أصدر عام 393 م قرارآ ديكتاتوريآ بإلغاء الألعاب الأوليمبية بإعتبارها مهرجانات وثنـــية لا تليق بالإمبراطورية الرومانية المسيحية .

ولكنه بالرغم من نهاية هذا العصر القسطنطينى والثيئودورى وغيره من عصور أذكت فى رجال الكنيسة تطلعهم للسلطة أو محاولة الوصول لتحالف بين السلطة المدنية والسلطة الدينية قوامها تبادل المنافع ، فالكنيسة تدفع الناس نحو الولاء للملك نظير تسهيلات يمنحها الملوك لتثـبيت مكانة هؤلاء على رأس شعبهم ومساعدتهم فى التغلب على معارضيهم .
بالرغم من إنتهاء هذا العهد إلا أن رجال الكنيسة ظلوا يتطلعون منتظرين من الحكام أن يحـصلوا منهم على مثل هذا القدر من التحالف بعد نهاية العصر الرومانى وحتى بعد الغزو الإسلامى.
والجدير بالذكر أن منصب البطريرك لم يكن قد تم إقراره بصفة رسمية إلا أثناء ذلك العصر ، فلم تكن هناك رتبة فى الكنيسة أعلى من رتية الأسقف ولم يتميز من بين هؤلاء سوى أسقف العاصمة بإعتباره الأسقف الأول ولم يطلق عليه أحد لقب بطريرك وكان أول من أطلق عــليه هذا اللقب هو أثناسيوس الرسولى 325 م بين أساقفة الإسكندرية ، وهو الذى أرخ لتاريخ سالفيه من أساقفة الإسكندرية بإعتبارهم بطاركه .
فالعلاقة بين السلطة المدنية وبين منصب البطريرك واضحة لأنه من الظاهر أنه لولا دور الـــملك قسطنطين ما كان لأثناسيوس أن يحظى بهذا القدر من السلطة والإستحواذ وإتخاذ هذا اللــقب هو وغيره من أساقفة أوائل أسوة بنظيرهم أسقف أنطاكية.
أما بخصوص نشأة التسمية ، فإنه من المعروف أن الكنيسة المسيحية ( وأعنى بها عموم الأفراد الذين أمنوا بالمسيحية ) قد أطلق عليهم المجتمع اليهودى فى الشتات إسم كنيسة أولآ ، راجـــــع أعمال الرسل  11 : 26
فَحَدَثَ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي الْكَنِيسَةِ سَنَةً كَامِلَةً وَعَلَّمَا جَمْعًا غَفِيرًا. وَدُعِيَ التَّلاَمِيذُ «مَسـِيحِيِّينَ» فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلاً .
وكان من المعروف أن رئيس الجالية اليهودية فى أنطاكية كانت تطلق عليه الجالية لقب بطـريرك وهى كلمة يونانية تعنى "أب رئيس"
8
(بطريأرخيس) وقد وردت هذه التسمية فى العهد الـجديد أربع مرات فى أعمال الرسل 2 : 29 " رئيس الآباء داود" ، وفى أعمال الرسل 7 : 8 " رؤساء الآباء الإثنى عشر" مقصود بهم رؤساء الأسباط ، وفى أعمال الرسل 7 : 9 رؤساء الآباء حسدوا يوسف" ومقصود بها كذلك رؤساء الأسباط ، وفى الرسالة إلى العبرانيين 7 : 4 " أعطاه إبراهيم رئيس الآباء" .
 فكان هذا اللقب بالتالى من نصيب كبير المسيحيين( الأسقف) فى
9
أنطاكية بعد إنتشار المسـيحية بين أبناء هذه الجالية وغلبتهم العددية التى تلاشى معها الوجود اليهودى ، وفى الواقع فإن الجالية اليهودية هى التى إحتضنت نشأة الكنيسة هناك ولقب بطريرك والبطاركة هو لقب مـعتاد لطالب الدراسة فى العهد القديم عند الحديث عن الآباء الأوائل لشعب بنى إسرائيل مثل إبراهـيم وإسحق ويعقوب فقد درج اليهود على تسميتهم بإسم الآباء البطاركة ومن هنا كان هذا اللقب هو اللقب المفضل والمعتاد فى الثقافة اليهودية التى إختصت بها كنيسة أنطاكيه بوصفها هى ثــــقافة الجالية اليهودية التى تحولت للمسيحية.
ويتضح من رسالة كتبها بطرس الثالث أن بطريرك الكنيسة فى أنطاكية كان بمفرده بين سـائر الأساقفة المسيحيين فى كل مكان فى العالم هو الذى يختص بهذا اللقب دون غيره بينما كان سائر رؤساء الكنائس يحملون لقب أسقف أول أو كبير الأساقفه .
ولكن بقبول قسطنطين 272 م- 337 م الإيمان المسيحى كان أسقف روما مُمَيَزآ بأنه أسقف يرأس الكنيسة التى يكون فيها الإمبراطور فردآ فيها لذلك أطلق على نفسه لقب البابا وبالرغم من كون قسطنطين قد دعا إلى إنعقاد مجمع نيقية وقام بحضوره بنفسه ، وأنه كان صديقآ ليوسابيوس القيصرى المؤرخ المسيحى وأن والدته هى القديسة هيلانه وأنه أصدر مرسوم ميلانو عام 313 م لإلغاء العقوبات المفروضة على كل من يتعنق الديانة المسيحية ، وأنه قام بهدم كافة المعابد الوثنية فى بيزنطة ، ونقل إليها عاصمة الإمبراطورية الموحدة عام 324 م إلا أنه لم يعتمد ويصير مسيحيآ بشكل كامل إلا فى العام الأخير من حياته أى عام 337 م.
وفى نفس الوقت أطلقت كنيسة الإسكندرية على أسقفها الأول أثناسيوس هذا اللقب ، فقد كــــانت المنافسة بين الكنيستين على الريادة على أشدها حتى أسفر هذا التنافس على الخلاف فى مجـــمع خلقدونية عام 451 م من بعد وإنشطار الكنيسة إلى شطرين كنيسة غربية برئاسة بابا روما وكنيسة الإسكندرية بقيادة بابا الإسكندريه وبدأت المجامع المسكونية من مجمع نيقية فى منح لقب بطريرك للأساقفة الكبار رؤساء الكنائس الخمس وهى أنطاكيه ، الإسكندريه ، روما ، القسطنطينية ، القدس ، بعد أن كان يختص بها رئيس الكنيسة الأنطاكيه بسبب ظروفها السياسية والثقافيه.
لكن فى وسط خضم هذه التغيرات التاريخية التى منحت رؤساء الكنائس هذه الألقاب
1-  لم يتـــــوقف هؤلاء برهة ليعودوا للكلمة المقدسة أو يستعينوا بقكر الكتاب عند إقدامهم على تقبل هذه الألقاب بينما كانوا يلجأون للكتاب لدحر أفكار مقاوميهم مثل أريوس وأوطاخى وناسطور وغيرهم ، وبذلك كانت هذه الخطوة فى غيبة من النقاش الفكرى أو العقائدى أو الكتابى المنهجى على خلاف ما كان من المفروض عليهم إتباعه.
2- أنه بالرغم من إعتداد هؤلاء حاليآ بتاريخ الكنيسة وفكر الأباء لكنهم لم يتوقفوا للبـحث عن منبت وأساس ذلك اللقب.

-------------
1-
F.F.Bruce,The Epistle of Paul to the Romans" .Grand Rapids,Michigan,p16.
2- Pomponia Greecina
3- Aulus Plautius
4-
Britain
5-
disgusting Oriental Superstition
6- 
Juvenal
7-
Orentes
8- πατριαρχης
9- أسد رستم . "كنيسة مدينة الله أنطاكيه العظمى" ، الجزء الأول ، المكتبة البولسية ، بيروت 1988 ص 405  

د.ق.جوزيف المنشاوى 


ليست هناك تعليقات: